الدين البهائي ورؤية الوحدة في التنوع: من الفكر إلى الممارسة الإنسانية

تاريخيًا، شكّلت فكرة التسامح والوحدة في ظل التنوع محور اهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر العصور، بوصفها أساسًا ضروريًا لاستقرار المجتمعات وتعايشها. فقد ركّز جون لوك على حرية المعتقد، معتبرًا إياها حقًا أصيلًا للفرد وشرطًا جوهريًا للتعايش السلمي، بينما دعا فولتير إلى حرية التعبير وفهم الآخر، مؤكدًا أن مواجهة التعصب لا تتم بالقمع، بل بترسيخ الوعي والفكر المستقل. أما جان جاك روسو، فقد رأى في المجتمع المدني فضاءً تتكامل فيه الاختلافات الفردية ضمن كيان جماعي أوسع، حيث يتحقق الانتماء المشترك رغم التعدد.

وفي الفلسفات الشرقية، مثل الكونفوشيوسية والهندوسية والفكر الصوفي، برزت رؤية للوحدة الكامنة خلف تعدد الظواهر، حيث يُنظر إلى التنوع بوصفه انعكاسًا لحقيقة واحدة. غير أن هذه الرؤى، على عمقها الروحي، غالبًا ما بقيت محكومة بحدود الزمان والمكان، ولم تُقدّم إطارًا عمليًا متكاملًا يجمع بين البعد الروحي والأخلاقي والاجتماعي في آنٍ واحد.

من هذا المنطلق، جاءت رؤية بهاءالله لتقدّم مقاربة شاملة ومنهجية، لم تكتفِ بالدعوة إلى التسامح باعتباره قيمة أخلاقية مجردة، بل جعلت من الاختلاف ذاته ركيزة للتعاون والتنمية المشتركة. فالاعتراف بالتنوع الديني والثقافي والإنساني لا يُعد هدفًا نهائيًا، بل وسيلة لبناء التفاهم، وتعزيز العمل الجماعي، وتحقيق التقدم الاجتماعي.

وتتجلى هذه الرؤية عمليًا على مستويات متعددة، تمتد من الحياة اليومية إلى السياسات العامة. ففي مجال التربية والتعليم، تُدمج مبادئ الوحدة في التنوع ضمن المناهج والبرامج التربوية، وتُصمَّم أنشطة للأطفال تُنمّي لديهم قيم احترام الآخر والتعاون، بحيث ينشأ الجيل الجديد على اعتبار الاختلاف مصدر قوة وإثراء، لا سببًا للانقسام.

أما على مستوى المجتمع الأوسع، فتُعتمد آليات التشاور التي تبدأ من المجموعات الصغيرة وتتدرج لتشمل المؤسسات والمستويات القيادية، ليصبح الحوار بين الثقافات والمجتمعات ممارسة عملية في صنع القرار، وقاعدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة.

كما تنعكس هذه الرؤية في السياسات الاجتماعية والاقتصادية من خلال تعزيز التمثيل العادل لمختلف الفئات، وتشجيع المشاريع التنموية المشتركة التي تحوّل التنوع إلى طاقة إبداعية حقيقية. وفي الحياة اليومية، يظهر أثر هذه الرؤية حين يتحول التسامح من شعار نظري إلى سلوك ملموس، يتجسد في الاستماع المتبادل، ومشاركة الموارد، وتحمل المسؤولية الجماعية عن رفاه المجتمع، بحيث يصبح الاختلاف عامل نمو شخصي واجتماعي، لا مصدر توتر أو صراع.

وفي هذا السياق، تبرز تجارب إنسانية معاصرة تُجسّد هذه المبادئ على أرض الواقع، من بينها جهود السيد علي الوالي، بهائي في إسبانيا، الذي يعمل من خلال مبادرات الأمل الخيرية على تعزيز قيم التسامح المستمدة من تعاليم الدين البهائي. وقد أسهمت هذه المبادرات في لمّ شمل أفراد من خلفيات عربية ودولية متعددة، عبر أنشطة اجتماعية وإنسانية تقوم على الخدمة والحوار وبناء الثقة بين الثقافات والأديان، بما يعكس الفهم العملي للوحدة في التنوع كممارسة يومية.

واليوم، في ظل تصاعد التفاعل بين الثقافات والهويات، تزداد الحاجة إلى هذا المشروع الأخلاقي والفكري المتكامل الذي يجعل من الوحدة في التنوع ضرورة عملية لضمان السلام الاجتماعي والاستقرار والعيش المشترك. وهكذا، تقدّم رؤية بهاءالله إطارًا عمليًا لفهم العلاقات الإنسانية في عالم معقّد، حيث يتحول الاختلاف إلى مصدر إثراء، والتسامح إلى نقطة انطلاق للتعايش البنّاء، والفكر إلى ممارسة يومية تُعزّز التعاون والتنمية المشتركة.

لقد آن الأوان لإعادة بلورة مفاهيم التسامح والوحدة بما يتناسب مع حاجات عصرنا الراهن. فهذه القيم، على سموّها، ستبقى مجرد شعارات ما لم تتحول إلى تطبيق عملي ملموس، نلمس آثاره في حياتنا اليومية ومجتمعاتنا، ونرى من خلاله كيف يمكن للفكر الإنساني، حين يُقترن بالفعل، أن يصنع أملًا حقيقيًا ومستقبلًا أكثر عدلًا وتماسكًا .

إعداد: خربوش زهير

شارك الخبر:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top