معاناة الباعة الجائلين تكشف عمق الأزمة الاجتماعية.

يعيش المغرب، مثل كثير من دول العالم، تحديا متجذرا اسمه الباعة الجائلون. فهذه الظاهرة لا تخص المغرب وحده، بل تعرفها دول كفرنسا وأمريكا وروسيا والصين ودول أخرى، حيث تلجأ فئات واسعة من الطبقات الفقيرة إلى هذا النمط من التجارة من أجل حفظ الكرامة ومواجهة تكاليف الحياة. غير أن ما يثير القلق في الحالة المغربية هو استفحال الأسواق العشوائية في المدن والأحياء، وانتشار الفوضى بطريقة تعكس خللا عميقا في تدبير المجال وفي استيعاب الطاقات البشرية داخل مسارات اقتصادية منظمة.

أسئلة كثيرة تفرض نفسها بإلحاح: ما أسباب هذا التوسع؟ من يستفيد من هذه العشوائية؟ وهل يعقل أن حامل الشهادات والدبلومات يجد نفسه مضطرا للانخراط في تجارة غير مهيكلة بعدما سدت أمامه الأبواب؟ وما الذي ينتظر آلاف الشباب إذا منعوا من كسب لقمة العيش؟ هل سنضيفهم إلى جيوش العاطلين بما يترتب عن البطالة من تبعات اجتماعية خطيرة؟ أم سندفعهم نحو خيارات أكثر قسوة في حياة ضاقت عليهم حتى لم تعد تتسع لخطواتهم؟

إن الباعة الجائلين ليسوا خصوما للدولة، ولا مخالفين بطبيعتهم، بل هم شباب ورجال ونساء دفعتهم قسوة الظروف وضيق العيش إلى البحث عن فرصة تحفظ كرامتهم. وهنا تكمن المعادلة الحقيقية: حين يصبح الشاب الحاصل على شهادة جامعية مطاردا في الأزقة وكأنه يتاجر في الممنوعات، فقط لأنه يبيع سلعة بسيطة ليسد رمق يومه، بينما تأسيس حياة زوجية أصبح حلما بعيد المنال، والتفكير فيه بات في حكم المستحيل أمام الغلاء والبطالة، فإن الخلل لم يعد في المواطن، بل في طريقة تدبير المجال وفي غياب البدائل الواقعية.

وفوق هذا كله، نجد خريجي الجامعات وحاملي الإجازات الذين لم يمنحهم القدر وظيفة ولا منصبا. لم يصبحوا قوادا أو عمالا أو موظفين، ليس لعجز في كفاءتهم، بل لأن الله يوزع الأرزاق بحكمته، فالصحة رزق، والمناصب رزق، وما كتب للإنسان سيأتيه. لكن هذه الحقيقة لا تعفي الدولة من واجبها في فتح الأبواب أمام هؤلاء الشباب ومنحهم فرصا تنقذهم من الضياع، لأن دور المؤسسات هو تحويل الإمكانيات إلى واقع، والطاقات إلى فرص لا إلى خيبات.

وإذا نزلنا إلى الميدان، سنجد قصصا كثيرة تقطع القلب وتكشف حجم المأساة الاجتماعية. فهناك من الباعة من يعيش في خوف دائم من فقدان رزقه، خوف يهدد طرده من المنزل بسبب عجزه عن دفع واجب الكراء. وهناك حالات لزوجات في الستينيات يضطررن للخروج صباحا لبيع ما تيسر فقط لتغطية مصاريف أدوية أزواجهن الذين أمضوا سنوات طويلة يعملون في شركات أغلقت أبوابها بفعل المنافسة. تقول “أمي نعيمة”، التي تجاوزت الستين وتمتهن بيع ملابس الأطفال مع بناتها: “قبح الله الفقر… هل يرضى أحد أن يتعرض للتنمر أو الاحتقار ؟ هذا لا يقبله مسلم، لكن الظروف هي التي جعلتنا ننحني الرأس ونهرب ونعود فقط من أجل لقمة العيش الحاف.” وتواصل بحسرة: “لو كان عندي المال، هل كنت سأقف هنا من الساعة الحادية عشرة صباحا إلى ما قبل أذان المغرب وأنا في هذا السن؟”.

هذه الشهادات المؤلمة ليست استثناء، بل هي مرآة لواقع يعيشه الآلاف. وهي تعيد التذكير بروح الخطابات الملكية التي جعلت من “العيش الكريم” و“حماية كرامة المواطن” محورا أساسيا للنموذج التنموي الجديد. فقد شدد جلالة الملك على ضرورة توفير فضاءات اقتصادية منظمة، وإحداث أسواق نموذجية، وتقديم بدائل حقيقية تخرج النشاط الاقتصادي من العشوائية إلى فضاء الإنتاج الكريم.

ومن هنا، تصبح المسؤولية مشتركة، ويتحملها رئيس الحكومة والولاة والعمال والقياد ورؤساء الجماعات والمنتخبون، كلّ من موقعه. فبدون رؤية اجتماعية عادلة تراعي واقع الناس، وبدون توفير أوعية عقارية مجهزة لاحتضان الأسواق النموذجية، سيظل الباعة الجائلون يركضون هربا وكأنهم مخالفون، بينما مشكلتهم الحقيقية أنهم يبحثون فقط عن مساحة للحياة.”

إن معالجة هذه الظاهرة لا تتم بالمطاردة، بل بتفعيل التوجيهات الملكية الداعية إلى تمكين المواطن وحماية كرامته. فحين توفر الدولة البديل الكريم، لن يحتاج أحد إلى الهروب، ولن تضطر “أمي نعيمة” وغيرها للوقوف طوال النهار من أجل لقمة العيش. وسيتمكن الشباب من الدخول إلى دورة اقتصادية منظمة تصنع فيها الفرص، بدل أن تهدر في شوارع العشوائية.

وفي النهاية، تبقى القضية قبل كل شيء قضية كرامة إنسانية. فهؤلاء ليسوا عالة على الوطن، بل أبناؤه يبحثون عن حق بسيط دعا إليه جلالة الملك مرارا: العيش الكريم.

شارك الخبر:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top