والمسؤولية يجب أن تُدفع من الجيب وليس من المال العام
متابعة: سعيد الهركاوي الجزء الثالث
لم يكن توقيف باشا بوسكورة سوى خطوة أولى في مسار طويل يجب أن ينتهي بوضع حدٍّ نهائي لزمن العبث الإداري، وترسيخ دولة الحق والقانون كما يريدها جلالة الملك محمد السادس. القرار الذي اتخذه وزير الداخلية ونزله عامل إقليم النواصر، على خلفية الهدم التعسفي لـ”قصر الضيافة”، هو إشارة قوية إلى أن لا أحد فوق المحاسبة، وأن الشطط في استعمال السلطة لن يمرّ بعد اليوم تحت عباءة الصمت أو التبريرات الفارغة.
لكن الحقيقة الواضحة الآن للرأي العام هي أن التوقيف الإداري وحده لا يكفي. فالمغاربة لم يعودوا يقبلون الإجراءات الشكلية التي تُهدئ الغضب دون أن تُعيد الأمور إلى نصابها. نحن أمام فعل خطير، ترتّبت عنه أضرار مالية واستثمارية جسيمة، شوهت سمعة البلاد، وضربت في العمق الثقة التي يسعى المغرب جاهداً لبنائها لدى المستثمرين الوطنيين والأجانب.
■ أولاً: الشطط في استعمال السلطة ليس خطأً بسيطاً… إنه جريمة
الهدم الذي لمس مشروعاً استثمارياً ضخماً، دون احترام لقاعدة التناسب أو استنفاد مساطر المصالحة الإدارية، يُعد في القانون شططاً صريحاً. والشطط ليس مجرد خطأ مهني، بل قد يتخذ طابع الجريمة التأديبية والجنائية حين يترتب عنه:
إضرار بمصالح الغير،
تبديد للاستثمارات،
أو إساءة إلى سمعة الدولة ومصداقية مؤسساتها.
وما حدث في بوسكورة يدخل في هذه الخانة. فالسلطة التي يفترض أن تُسهّل الاستثمار وتُؤمّن مناخ الأعمال، تحولت – للأسف – إلى مصدر تهديد حقيقي عبر قرار منفرد وغير مدروس.
■ ثانياً: التوقيف إجراء أولي… وليس عقوبة
توقيف الباشا لا يعني أي شيء للرأي العام إن لم يتبعه:
- فتح تحقيق قضائي تحت إشراف النيابة العامة المختصة،
- تحديد المسؤوليات بدقة،
- إحالة الملف على المحكمة الإدارية والجنائية عند الاقتضاء،
- عدم الاكتفاء بعقوبات تأديبية تحفظ ماء الوجه.
لأن الأضرار التي تسبب فيها القرار ليست بسيطة: نحن نتحدث عن مشروع بملايير الدراهم، ومناصب شغل ضاعت، وانتكاسة في مناخ الاستثمار، ورسالة سلبية للمؤسسات الدولية.
■ ثالثاً: لا يجب أن يدفع المواطن ثمن أخطاء المسؤولين
من غير المقبول أن تُغطي ميزانية الدولة، أي المال العام، تبعات قرارات متعسفة اتخذها مسؤولون بإرادتهم المنفردة.
المطلوب اليوم هو اعتماد قاعدة واضحة:
من أخطأ… يدفع من ماله الخاص.
هذه القاعدة معمول بها في الدول التي تحترم القانون، حيث يُلزم المسؤول المتسبب في الضرر بتعويض المستثمر أو المتضرر، بدل تحميل الخزينة العامة نتائج قرارات فردية متهورة.
وهنا يجب فتح نقاش قانوني حول:
تفعيل مسطرة الرجوع على الموظف (Action récursoire)،
تمكين المتضررين من مقاضاة المسؤول بصفته الشخصية،
وتعديل المنظومة القانونية لضمان عدم الإفلات من التعويض.
■ رابعاً: الواقعة ليست مجرد “خطأ إداري”… إنها مسّ بهيبة الدولة
الهدم التعسفي لا يُضر بالمقاول وحده، بل يضرب:
الميثاق الجديد للاستثمار،
رؤية المغرب 2030،
توجيهات الملك بخصوص تسريع التنمية،
ثقة المستثمرين،
وصورة الدولة كضامن للاستقرار القانوني.
ولذلك كان من الطبيعي أن يحظى الملف بمتابعة من أعلى سلطة في البلاد. فالمغرب اليوم يهيّئ البنية التحتية لأكبر حدثين رياضيين في تاريخه، ولا يمكن أن يسوّق للعالم نموذجاً تنموياً طموحاً بينما يترك مسؤولين ميدانيين يهدمون الاستثمار في لحظة مزاجية أو تصفية حسابات.
■ خامساً: المطلوب اليوم - تحريك المتابعة القضائية فوراً ضد كل من شارك في القرار أو وقّع عليه.
- تحصيل التعويض من أموالهم الخاصة، وليس من خزائن الدولة.
- إصدار بلاغ رسمي يوضح التفاصيل للرأي العام، لأن الشفافية هي الضامن الوحيد لاستعادة الثقة.
- فتح مسار إصلاح شامل في ممارسة السلطة الترابية حتى لا تتكرر واقعة الهرهورة أو غيرها.
- حماية المستثمرين بتفعيل دور النيابة العامة في مواجهة التعسف الإداري.
- مراجعة علاقة العامل والقياد والباشوات بالاستثمار حتى يصبح القرار الإداري خادماً للتنمية وليس معرقلاً لها.
■ الخلاصة
هذه النازلة ليست حادثاً عابراً… إنها اختبار حقيقي لمدى التزام الدولة بتوجيهات الملك، ولقدرتها على تنزيل ميثاق الاستثمار دون تشويهه بممارسات قديمة كنا نعتقد أنها انتهت.
إذا كنا نريد مغرباً قوياً، استثمارياً، جذاباً، حديثاً… فلا بد أن نقطع مع ثقافة “التوقيف الإداري” وننتقل إلى ثقافة “المحاسبة الحقيقية”.
فهيبة الدولة لا تُبنى بالخطابات… بل بالمؤسسات التي تعاقب كل مسؤول أساء استعمال السلطة، مهما كان منصبه، ومهما كانت رتبته.
والمغرب الجديد… لا مكان فيه لمرتكب الشطط ولا لقرار بلا قانون.

